الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم}: الضميرُ في {جَعَلَهُ الله}: عائدٌ على الإنزال والإمداد، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا بهِ، وتطمئنَّ به قلوبكم، وترون حِفَايَةَ اللَّه بكم، وإلا فالكثرةُ لا تُغْنِي شيئًا إلاَّ أنْ ينصر اللَّه، واللاَّمُ في قوله: {لِيَقْطَعَ} متعلِّقة بقوله: {وَمَا النصر}، ويحتمل أنْ تكون متعلِّقة ب {جَعَلَهُ} فيكون قَطْع الطَّرف إشارةً إلى مَنْ قتل ببَدْرٍ؛ على قول ابن إسحاق وغيره، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السُّدِّيُّ، وقتل من المشركين ببَدْرٍ سبعون، وقُتِلَ منهم يوم أحد اثنان وعِشْرُونَ رجُلاً، والطرف الفريق. وقوله سبحانه: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}: معناه يُخْزِيَهُمْ والكَبْتُ: الصرع لليَدَيْن. وقال * ص *: الكَبْت: الهزيمة، وقيل: الصَّرْع لليدين اه. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ...} الآية: رُويَ في سبب هذه الآية؛ أنَّه لما هزم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، جَعَلَ يَمْسَحُ وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ»، وفي بعض طُرُق الحَدِيثِ: «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّه»، فَنَزَلَتِ الآيةُ، فقيلِ لَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ}، أي: عواقب الأمور بيد اللَّه، فامض أنْتَ لشأْنِكَ، ودُمْ على الدعاء إلى ربِّك. قُلْتُ: وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ممتثلاً أَمْرَ ربِّه، قال عِيَاض: رُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، شَقَّ ذَلِكَ على أَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِياً، وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهد قَوْمِي، فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»، ورُوِيَ عن عُمَر (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كلامه: بِأَبِي وَأُمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ دَعَا نُوحٌ على قَوْمِهِ، فَقَالَ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض} [نوح: 26] وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا، لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، فَلَقَدْ وُطِيءَ ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلاَّ خَيْراً، فَقُلْتَ: «اللَّهُمَّ، اغفر لِقَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» اه. قال الطبريُّ وغيره من المفسِّرين: {أَوْ يَتُوبَ} عطْفٌ على {يَكْبِتَهُمْ} والمعنى: أوْ يَتُوبَ عليهم، فَيَسْلَمُونَ أو يُعَذِّبَهم، إنْ تَمَادَوْا على كفرهم؛ فإنهم ظالمون، ثم أكَّد سبحانه معنى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} بذكْرِ الحُجَّةِ السَّاطعة في ذلك، وهي ملكه الأشياء، فقال سُبْحانه: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أي: فله سبحانه أنْ يفعل بحَقِّ ملكه ما يشاء، لا اعتراض علَيْه ولا معقِّب لحُكْمه، وذَكَر سبحانَهُ:؛ أنَّ الغُفْران أو التَّعْذيب، إنما هو بمشيئَتِهِ، وبحَسَب السَّابق في علْمه، ثم رجى سبحانه في آخر ذلك؛ تأْنيساً للنُّفُوس.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة...} الآية. قال * ع *: هذا النهْيُ عن أَكْلِ الربا اعترَضَ أثناء قِصَّة أُحُدٍ، ولا أحفَظُ سَبَباً في ذلك مرويًّا، ومعناه: الرِّبَا الذي كانت العربُ تُضعِّف فيه الدَّيْن، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في «سورة البقرة». وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ للكافرين}، أي: أنهم المقصودُ، والمراد الأوَّل، وقد يدخُلُها سواهم من العُصَاة، هذا مذْهَبُ أهل العلْمِ في هذه الآية، وحكَى الماوَرْدِيُّ وغيره، عن قوم؛ أنهم ذهبوا إلى أن أَكَلَة الرِّبا، إنما توعَّدهم اللَّهُ بنارِ الكَفَرة، لا بنار العُصَاة. وقوله سبحانه: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، قال محمَّد بْنُ إسحاق: هذه الآية من قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله} هي ابتداءُ المعاتبةِ فِي أمر أُحُدٍ، وانهزام مَنْ فَرَّ، وزوالِ الرماةِ عن مَرَكزهم.
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} وقوله تعالى: {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض}، قرأ نافعٌ، وابنُ عامِرٍ: سارعوا بغَيْر «واوٍ»؛ وكذلك هي في مصاحِفِ أهل المدينة والشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، والمُسَارَعَة: المبادرةُ، وهي مفاعلة؛ إذ الناس كأن كلَّ واحِدٍ يُسْرِعُ لِيَصِلَ قبل غيره، فَبَيْنَهُمْ في ذلك مُفَاعَلَةٌ؛ أَلاَ ترى إلى قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148]، والمعنى: سارعوا بالطَّاعة، والتقوى، والتقرُّب إلى ربِّكم إلى حالٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فيها، قلْتُ: وحقٌّ على مَنْ فَهِمَ كلامَ ربِّه؛ أنْ يبادر ويُسَارع إلى ما ندبه إلَيْه ربُّه، وألاَّ يتهاوَنَ بترك الفضائِلِ الواردَةِ في الشَّرّع، قال النوويُّ رحمه الله: اعلم أنه ينبغِي لِمَنْ بلغه شيْءٌ في فضائلِ الأعمال؛ أنْ يعمل به، ولو مَرَّةً؛ ليكون مِنْ أهله، ولا ينبغي أنْ يتركه جملةً، بل يأتي بما تيسَّر منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفَقِ على صِحَّته: " وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فافعلوا مِنْهُ مَا استطعتم " انتهى من «الحِلْيَة». وقوله سبحانه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض}، أي: كعرض السموات والأرض، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية: تقرن السمواتُ والأرَضُونَ بعضها إلى بعض؛ كما تبسطُ الثيابُ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة؛ ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه؛ وفي الحديثِ الصحيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً " وفي الصحيح: " إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ المُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا " فهذا كلُّه يقوِّي قولَ ابْنِ عَبَّاسِ، وهو قولُ الجُمْهور: «إنَّ الجنَّة أَكْبرُ من هذه المخلوقاتِ المذْكُورة، وهي ممتدَّة على السَّماء؛ حيْثُ شاء اللَّه تعالى، وذلك لا يُنْكَرُ، فإن في حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَمَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ". قال * ع *: فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه، قلتُ: قال الفَخْر وفي الآية وجْه ثانٍ؛ أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ؛ لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا. اه. وقُدْرَةُ اللَّه تعالى أوسع، وفَضْلُه أعظم، وفي «صحيح مسلم»، والترمذيِّ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة (رضي اللَّه عنه): " في سُؤَال موسى رَبَّهُ عَنْ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، وَأَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: أترضى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ: رَضِيتُ، أيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشتهت نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ " ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البخاريِّ من طريقِ ابْنِ مسعودٍ (رَضِيَ اللَّه عَنه): " إنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّة، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادخل الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ، الجَنَّةُ ملأى، فَيَقُولُ لَهُ: إنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ " اه. وفي «جامع التِّرمذيِّ»، عن ابنِ عُمَرَ (رضي اللَّه عنهما)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً " الحديثَ، قال أبو عيسى، وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنّ غير وَجْهٍ، مرفوعًا وموقوفًا، وفي الصَّحيحِ ما معناه: " إذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، تبقى فِيهَا فَضْلَةٌ، فَيُنْشِيءُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً "، أَوْ كما قال. اه. قال * ع *: وخص العرض بالذِّكْر؛ لأنه يدلُّ متى ما ذُكِرَ علَى الطُّولِ، والطُّولُ إذا ذكر لا يدُلُّ على قَدْر العَرْض، بل قد يكونُ الطَّويلُ يَسِيرَ العَرْضِ؛ كالخَيْطِ ونحوه. ثم وصف تعالى المتَّقِينَ الذين أعدَّتّ لهم الجنَّةُ بقوله: {الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء}، وهما اليُسْر والعُسْر، قاله ابن عَبَّاس. إذ الأغلَبُ أنَّ مع اليُسْر النَّشَاطَ، وسرورَ النفْسِ، ومع العُسْر الكراهيَةَ، وضُرَّ النفس، وكَظْمُ الغَيْظ: ردُّه في الجَوْفِ، إذا كاد أنْ يخرج من كثرته، ومنعه: كظْمٌ له، والكِظَامُ: السَّيْر الذي يشدُّ به فَمُّ الزِّقِّ، والغَيْظُ: أصْلُ الغضَبِ، وكثيراً ما يتلازمَانِ؛ ولذلك فسَّر بعض الناس الغَيْظَ بالغَضَب، وليس تحريرُ الأمر كذلك، بل الغيظُ حالٌ للنفس، لا تظهر على الجوارح، والغضبُ حالٌ لها تظهر في الجوارحِ وفِعْلٍ مَّا؛ ولا بدَّ؛ ولهذا جاز إسناد الغَضَب إلى اللَّه سبحانه؛ إذ هو عبارة عن أفعاله في المغْضُوب علَيْهم، ولا يسند إلَيْه تعالى الغَيْظُ. ووردَتْ في كظْمِ الغيظ، ومِلْكِ النفْسِ عند الغضب أحاديثُ، وذلك من أعظم العباداتِ، وجهادِ النفسِ، ففي حديثِ أبِي هُرَيْرة (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ، مَلأَهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً "، إلى غير ذلك من الأحاديثَ، قُلْتُ: وروى أبو داوُدَ، والترمذيُّ عن معاذِ بْنِ أَنَس (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ على رُءُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ "، قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. اه. وفي روايةٍ أخرى لأبي داود: «مَلأهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ بِشْرٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ: تَوَاضُعاً، كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ»، وحدَّث الحافظُ أَبو الفَضْلِ محمَّد بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ بسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " مَنْ كَفَّ عَضَبَهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنِ اعتذر إلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ " اه من «صفوة التَّصوُّف». والعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: من أجلِّ ضروبِ فعْلِ الخَيْرِ، ثم قال سبحانه: {والله يُحِبُّ المحسنين}، فعم أنواع البرِّ، وظَاهر الآية أنَّها مدْحٌ بفعل المندوب.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} وقوله سبحانه: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله...} الآية: ذكر سبحانه في هذه الآيةِ صِنْفاً هو دُون الصِّنف الأول، فألحقهم بهم برَحْمته ومَنِّه، وهم التَّوَّابون، وروي في سَبَب نُزُول هاتَيْن الآيتَيْن؛ أن الصحابَةَ (رضي اللَّه عنهم)، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا حِينَ كَانَ المُذْنِبُ مِنْهُمْ يُصْبِحْ، وَعُقُوبَتُهُ مَكْتُوبَةٌ على بَابِ دَارِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً، وَعِوَضاً مِنْ ذَلِكَ الفِعْلِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ». ورُوِيَ أَنَّ إبليسَ بكى، حين نزَلَتْ هذه الآيةُ، والفاحشةُ لفظٌ يعمُّ جميع المعاصِي، وقد كثر استعماله في الزِّنا؛ حتى فسر السُّدِّيُّ الفاحشَةَ هنا بالزِّنَا، وقال قومٌ: الفاحِشَةُ هنا: إشارةٌ إلى الكبائِرِ، وظُلْمُ النَّفْس: إشارةٌ إلى الصَّغائر، واستغفروا: معناه: طلبوا الغُفْران. قال النوويُّ: وَرُوِّينَا في سنن ابْنِ ماجة؛ بإسنادٍ جيدٍ، عن عبد اللَّه بْنُ بُسْرٍ (بضم الباء)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " طوبى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ استغفارا كَثِيراً " انتهى من «الحلية». و {ذَكَرُواْ الله}: معناه: بالخَوْفِ من عقابِهِ، والحَيَاءِ منه؛ إذ هو المُنْعِمُ المتطَوِّل، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}؛ اعتراضا موقِّفاً للنفْس، داعياً إلى اللَّه مرجِّياً في عفوه، إذا رجع إلَيْه، وجاء اسم «اللَّهِ» مرفوعًا بعد الاستثناء، والكلامُ موجَبٌ؛ حملاً على المعنى؛ إذ هو بمعنى، ومَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّه، وعن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ (رضي اللَّه عنه)، قَالَ: حدَّثني أبو بكر رضي اللَّه عنه، وصَدَقَ أبو بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْباً، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قرأَ هذه الآيةَ: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله...} إلى آخر الآية " رواه أبو داود، والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابن ماجة، وابْنُ حِبَّانَ في «صحيحه»، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حَسَن انتهى من «السلاح». وقوله سبحانه: {وَلَمْ يُصِرُّواْ}: الإصْرَارُ: هو المُقَامُ على الذَّنْبِ، واعتقادُ العودة إليه، وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال السُّدِّيُّ: معناه: وهم يعلَمُونَ أنهم قد أَذْنَبُوا، وقال ابنُ إسحاق: معناه: وهم يعلمون بمَا حَرَّمْتُ عليهم، وقيل: وهم يعلَمُونَ أنَّ بابِ التوبة مفتوحٌ، وقيل: وهم يعلمون أنِّي أعاقب عَلَى الإصرار، ثم شَرَّك سبحانه الطَّائفَتَيْنِ المذكورتَيْن في قوله: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ...}. قال * ص *: قوله: {ونِعْمَ} المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي المغفرةُ والجَنَّة.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} وقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض...} الآية: الخطابُ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكُمْ أنْ ظَهَرَ الكُفَّار المكذِّبون عليكم بِأُحُدٍ، فإن العاقبة للمتَّقين، وقديماً ما أدال اللَّه المُكَذِّبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيْفَ هلَك المكذِّبون بَعْدَ ذلك، فكذلك تكُونُ عاقبةُ هؤلاءِ، وقال النَّقَّاش: الخِطَابُ ب {قَدْ خَلَتْ} للكُفَّار. قال * ع *: وذلك قَلِقٌ، وخَلَتْ: معناه: مضَتْ، والسُّنَن: الطرائِقُ. وقال ابنُ زَيْد: سُنَنَ: معناه: أمثال، وهذا تفسيرٌ لا يخُصُّ اللفظة، وقوله: {فانظروا} هو عند الجمهورِ مِنْ نَظَر العَيْن، وقال قومٌ: هو بالفكْر. وقوله تعالى: {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ}، يريد به القُرآن؛ قاله الحَسَن وغيره، وقال جماعة: الإشارة ب «هذا» إلى قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. وقال الفَخْر: يعني بقوله: «هذا بيانٌ» ما تقدَّم؛ من أمره سبحانه، ونَهْيِهِ، ووعدِهِ، ووعيدِهِ، وذكرِهِ لأنواع البيِّنات والآيات. انتهى. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوَهَنِ، وهو الضَّعْف، وأنَّسهم بأنهم الأعلَوْنَ أصْحَابُ العاقبة، ومِنْ كَرَمِ الخُلُقِ ألاَّ يَهِنَ الإنسانُ في حربه، إذا كان مُحِقًّا، وإنما يحسن اللِّين في السِّلْم والرضى، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم: " المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ "، وقوله سبحانه: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} إخبار بعُلُوِّ كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ. قال * ص *: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}: في موضِعِ نصبٍ؛ على الحال. وقوله سبحانه: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: المقصدُ هزُّ النفوسِ، وإقامتها، ويترتَّب من ذلك الطَّعْنُ على من نجم في ذلك اليَوْم نِفَاقُهُ أو اضطرب يقينه، أي: لا يتحصَّل الوعد إلاَّ بالإيمان، فالزموه، ثم قال تعالى؛ تسليةً للمؤمنين: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ}، والأُسْوَةُ مسلاة للبَشَر؛ ومنه قول الخَنْسَاء: [الوافر] وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي *** على إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِن *** أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي والقَرْح: القَتْل والجِرَاحْ؛ قاله مجاهدٌ وغيره. وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس}، أخبر سبحانه على جهة التسلية؛ أنَّ الأيام على قديم الدهر وغابِرِه أيضاً إنما جعلَهَا دُولاً بيْنَ البَشَر، أي: فلا تُنْكِرُوا أنْ يدَالَ عليكم الكفَّار. وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ}، تقديره: وليَعْلَم اللَّهُ الذين آمنوا فعل ذلك، والمعنى: ليظهر في الوجود إيمانُ الذين قَدْ علم اللَّه أزلاً؛ أنهم يؤمنون وإلاَّ فقد علمهم في الأزَلِ، {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}: معناه أهْل فَوْز في سَبِيلِهِ، حسْبما وَرَدَ في فضائلِ الشهداءِ، وذَهَب كثيرٌ من العلماء إلى التَّعْبير عن إدَالَةِ المؤمنين بالنَّصْر، وعن إدالة الكُفّار بالإدالة، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثٌ؛ " أنَّهُمْ يُدَالُونَ؛ كَمَا تُنْصَرُونَ " والتمحيصُ: التنقيةُ، قال الخليل: التَّمْحِيصُ: التخليص من العَيْب، فتمحيصُ المؤمنينَ هو تنقيتُهم منَ الذُّنُوب، والمَحَقُ: الإذهاب شيْئاً فشيْئاً؛ ومنه: مَحَاقُ القَمَر، وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين. ..} الآية: حَسِبْتُم: معناه: ظَنَنْتُم، وهذه الآيةُ وما بعدها عَتْبٌ وتقريعٌ لطوائفَ مِنَ المؤمنين الَّذينَ وقَعَتْ منهم الهَنَوَاتُ المشْهورة في يَوْمِ أُحُدٍ، ثم خاطب اللَّه سبحانَهُ المؤمنين بقوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ}، والسببُ في ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في غزوةِ بَدْرٍ، يريدُ عِيرَ قُرَيْشٍ مبادراً، فلم يوعب النَّاس معه؛ إذ كان الظنُّ أنه لا يلقى حَرْباً، فلَمَّا قضَى اللَّه ببَدْرٍ ما قضى، وفاز حاضِرُوها بالمَنْزِلة الرَّفيعةِ، كان المتخلِّفون من المؤمنين عنْها يتمنَّوْن حُضُور قتالِ الكُفَّار؛ ليكونَ منْهُمْ في ذلك غَنَاء يُلْحِقُهُمْ عِنْدَ ربِّهم ونبيِّهم بمنزلةِ أهْل بَدْر، فلمَّا جاء أمْر أُحُدٍ، لم يَصْدُقْ كُلُّ المؤمنين، فعاتبهم اللَّه بهذه الآية، وألزمهم تمنِّيَ المَوْتِ؛ من حيثُ تَمَنَّوْا أسبابه، وهو لقاءُ العَدُوِّ ومُضَارَبَتُهم، وإلاَّ فنَفْسُ قَتْل المُشْرِك للمُسْلِم لا يجُوزُ أنْ يتمنى؛ من حيث هو قَتْلٌ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادةِ والنْعيم، قُلْتُ: وفي كلام * ع *: بعضُ إجمالٍ، وقد ترجم البخاريُّ تَمَنِّيَ الشهادةِ، ثم أسند عن أبي هريرة، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ؛ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدتُّ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» وخرَّجه أيضًا مسلمٌ، وخرَّج البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديث أنسٍ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ (عَزَّ وجَلَّ) خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، وأَنَّ الدُّنْيَا لَهُ وَمَا فِيهَا، إلاَّ الشَّهِيدَ، لِمَا يرى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يرى مِنَ الكَرَامَةِ» اه. فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ؛ لما فيه من الكرامة. وصَوَابُ كلام * ع *: أنْ يقول: وإِنما يتمنَّى القتلُ؛ للواحقه؛ من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ. وقوله سبحانه: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}: تأكيدٌ للرؤية، وإخراجِها من الاشتراك الذي بَيْنَ رؤية القَلْب ورُؤْية العَيْن.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل...} الآية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم: المعنى أنَّ محمدًا عليه السلام رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك؛ لأنه يَمُوتُ؛ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ على عَقِبَيْهِ بقوله: {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً}؛ لأن المعنى: فإنما يضرُّ نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكِرِينَ، وهم الذين صدَقُوا، وصَبَرُوا، ومَضَوْا في دينهم، ووَفَّوْا للَّه بعَهْدهم؛ كسعدِ بْنِ الرَّبيع، ووصيته يومئذٍ للأنصار، وأَنَسِ بْنِ النَّضرِ، وغيرهما، ثم يَدْخُلُ في الآية الشاكرون إلى يوم القيامةِ، وقال عليٌّ (رضي اللَّه عنه) في تفسير هذه الآية: الشاكِرُونَ الثَّابِتُونَ على دِينِهِمْ؛ أبو بَكْر، وأصحابه، وكان يقولُ: أبُو بَكْرٍ أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ؛ إشارة منه إلى صَدْعِ أبي بَكْر بهذه الآيةِ يوم مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وثبوتِهِ في ذلك المَوْطِن، وثبوتِهِ في أمْرِ الرِّدَّة، وسائرِ المواطنِ التي ظَهَرَ فيها شُكْرُهُ، وشُكْرُ الناس بسببه، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن النفوسِ؛ أنها إنما تَمُوتُ بَأجَلٍ مَكْتُوبٍ محتومٍ عند اللَّه تعالى، أي: فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ. وقوله سبحانه: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا...} الآية، أي: نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له؛ يبيِّن ذلك قولُهُ تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18]، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتى شيْئاً من الآخرة؛ لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا، فلا نَصِيبَ له في الآخرة، والأعمال بالنيَّات، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} لا تمنع أنْ يؤتى نصيباً من الدنيا، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشاكرين}: إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة. ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ، فقال: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قاتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...} الآية: وفي «كَأَيِّنْ» لغاتٌ، فهذه اللغة أصلها؛ لأنها كافُ التشبيه دخلَتْ على «أيٍّ»، و«كَأَيِّنْ» في هذه الآية في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وهي بمنزلة «كَمْ»، وبمعناها تعطى في الأغلب التكثيرَ، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: «قُتِلَ» مَبْنياً لما لم يسمَّ فاعله، وقرأ الباقُونَ «قَاتَلَ»، فقوله: «قُتِلَ»، قال فيه جماعةٌ من المفسِّرين، منهم الطَّبريُّ: إنه مستند إلى ضميرِ «نَبِيٍّ»، والمعنى عندهم أنَّ النبيَّ قُتِلَ، ونحا إليه ابنُ عَبَّاس، وإذا كان هذا، ف «رِبِّيُّونَ» مرتفعٌ بالظرف بلا خلاف، وهو متعلِّق بمحذوفٍ، وليس متعلِّقاً ب «قُتِلَ»، وقال الحَسَن بْنُ أبي الحَسَن وجماعة: إنَّ «قُتِلَ» إنما هو مستندٌ إلى قوله: «رِبِّيُّون»، وهم المقتولُونَ، قال الحَسَن، وابنُ جُبَيْر: لم يقتل نبيٌّ في حَرْبٍ قطُّ. قال * ع *: فعلى هذا القول يتعلَّق قوله: «مَعَهُ» ب «قُتِلَ» ورجح الطبريُّ القَوْلَ الأوَّل؛ بدلالة نازِلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ المؤمنين إنما تخاذلوا يَوْم أحد، لما قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّد، فضرب المَثَل بنَبِيٍّ قُتِلَ، وترجيحُ الطبريِّ حسن؛ ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم من قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وحجة من قَرَأَ «قَاتَلَ»: أنها أعمُّ في المدح؛ لأنه يدخل فيها مَنْ قُتِلَ، ومن بقي. قال * ع *: ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ استناد الفعْلِ إلى الربِّيِّين، وقوله: {رِبِّيُّونَ}، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموعٌ كثيرةٌ، وهو من الرِّبَّة (بكسر الراء)، وهي الجماعة الكثيرة، وروي عنِ ابن عَبَّاس والحسنِ بْنِ أبي الحَسَن وغيرهما: إنهم قالوا: ربِّيونَ: معناه: علماء؛ ويقوِّي هذا القولَ قراءةُ مَنْ قرأَ: رِبِّيُّونَ (بفتح الراء)، منسوبون إلى الرَّبِّ؛ إما لأنهم مطيعُونَ له، أوْ مِنْ حيث إنهم علماء بما شَرَع. وقوله سبحانه: {وَمَا استكانوا}، ذهبتْ طائفةٌ من النحاة إلى أنَّه من السُّكُون، وذهَبَتْ طائفة إلى أنه مأخوذٌ مِنْ: «كَانَ، يَكُونُ»، وأصلُهُ: استكونوا، والمعنى: أنهم لم يَضْعُفوا، ولا كانوا قريباً من ذلكَ، قلْتُ: واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا، وكراهيةُ بَذْلِ النفُوسِ للَّه، وبَذْلِ مُهَجِهَا لِلقَتْلِ في سَبيلِ اللَّهِ؛ ألا ترى إلى حال الصَّحابة (رضي اللَّه عنهم)، وقلَّتِهِمْ في صَدْرِ الإسلامِ، وكيف فتح اللَّه بهم البلاد، ودان لدِينِهِمُ العباد، لما بَذَلُوا للَّه أنفسَهُمْ في الجهاد، وحالِنا اليَوْمَ، كما ترى؛ عددُ أهْل الإسلام كثيرٌ، ونكايتهم في الكُفَّار نَزْرٌ يسيرٌ، وقد روى أبو داود في «سننه» عن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تتداعى عَلَيْكُمْ؛ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: ومِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، ولَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ " اه، فانظر (رحمك اللَّه)، فهل هذا الزمانُ إلا زماننا بعَيْنه، وتأمَّل حال ملوكنا، إنما هِمَّتهم جمْعُ المالِ مِنْ حرامٍ وحلالٍ، وإعراضُهم عَنْ أمْر الجهاد، فإنا للَّه وإنا إليه راجعُونَ على مُصَاب الإسلام.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا...} الآية: هذه الآيةُ في ذكْر الرِّبِّيِّين، أي: هذا كان قولَهُم، لا ما قاله بعضُكم، يا أصْحَاب محمَّد: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} [آل عمران: 154]، إلى غير ذلك ممَّا اقتضته تلْكَ الحَالُ مِن الأقوال، قُلْتُ: وهذه المقالَةُ ترجِّح القولَ الثانِيَ في تفْسير الرِّبِّيِّينَ؛ إذ هذه المقالةُ إنما تَصْدُرُ من علماء عارفينَ باللَّه. قال * ع *: واستغفار هؤلاءِ القَوْمِ الممْدُوحِينَ فِي هذا المَوْطِنِ يَنْحُو إلى أنهم رَأَوْا أَنَّ ما نزل مِنْ مصائبِ الدُّنْيا إنما هو بِذُنُوبٍ من البَشَرِ؛ كما نزلَتْ قصَّة أُحُدٍ بعصيان من عصى، وقولهم: {ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}: عبارتان عن معنًى قريبٍ بعضُهُ من بعضٍ؛ جاء للتأكيد، ولتعمَّ مناحي الذنوبِ؛ وكذلكَ فسَّره ابنُ عبَّاس وغيره، وقال الضَّحَّاك: الذنوبُ عامُّ، والإسرافُ في الأمر، أريدَ به الكبائرُ خاصَّة، {فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا}؛ بأن أظهرهم على عدُوِّهم، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة}: الجَنَّة بلا خلاف. قال الفَخْر: ولا شَكَّ أنَّ ثوابَ الآخِرَةِ هي الجَنَّة، وذلك غَيْرُ حاصلٍ في الحالِ، فيكون المرادُ أنَّه سبحانه، لَمَّا حكم لهم بحصولها في الآخرة، قام حُكْمُهُ لهُمْ بذلك مَقَامَ الحُصُول في الحالِ، ومَحْمَلُ قوله: {ءاتاهم} أنه سيؤتيهم. وقيل: ولا يمتنع أنْ تكون هذه الآية خاصَّةً بالشهداء، وأنه تعالى في حال نزول هذه الآية، كان قد آتاهم حُسْنَ ثواب الآخرة. انتهى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ}، يعني: المنافقين الذين خَيَّبوا المسلمين، وقالوا في أمر أُحُد: لو كان محمَّد نبيًّا، لم ينهزم. وقوله سبحانه: {بَلِ الله مولاكم وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} هذا تثبيتٌ لهم، وقوله سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} سبب هذه الآيةِ أنه لما ارتحَلَ أبُو سُفْيان بالكفَّار، رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فتجهَّز، واتبع المشركِينَ، وكان مَعْبَدُ بْنُ أبي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيُّ قد جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ سَاءَنَا مَا أَصَابَكَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَمِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَكِبَ مَعْبَدٌ؛ حتى لَحِقَ بِأَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رأى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَداً، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ، يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي أصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ قَدِ اجتمع مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، ونَدِمُوا على مَا صَنَعُوا، قَالَ: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَرَاكَ أَنْ تَرْحَلَ حتى ترى نَوَاصِيَ الخَيْلِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، لَقَدْ أَجْمَعْنَا الكَرَّةَ إلَيْهِمْ، قَالَ: فَإنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَاللَّهِ، لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ على أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ شِعْراً، قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: [البسيط] كَادَتْ تَهُدُّ مِنَ الأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي *** إذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالجُرْدِ الأَبَابِيلِ تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لاَ تَنَابِلَةٍ *** عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلاَ مِيلٍ مَعَازِيلِ فَظَلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَة *** لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ إلى آخر الشِّعْر، فألقى اللَّه الرُّعْبَ في قلوبِ الكفَّارِ، وقالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّة: لاَ تَرْجِعُوا فإني أرى أنه سيكُونُ للقَوْمِ قِتَالٌ غَيْرُ الذي كَانَ، فنَزَلَتِ الآيةُ في هذا الإلقاء، وهي بَعْدُ متناولَةٌ كلَّ كافرٍ؛ قال الفَخْر: لأنه لا أحد يخالفُ دِينَ الإسلام، إلا وَفِي قلبه خَوْفٌ من الرُّعْب، إما عند الحَرْب، وإما عند المُحَاجَّة. انتهى. وقوله سبحانه: {بِمَا أَشْرَكُواْ}، هذه باءُ السَّبَبِ، والسُّلْطَانُ: الحُجَّة والبُرْهَان. قال * ص *: قوله: {وَبِئْسَ}، المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: النار [انتهى]. وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، جاء الخطَابُ لجميعِ المؤمنينَ، وإن كانَتِ الأمور التي عاتبهم سبحانه علَيْها، لم يقَعْ فيها جميعُهم؛ ولذلك وجوهٌ من الفصاحةِ، منْها: وعْظ الجميع، وزجْرُه؛ إذ مَنْ لم يفعلْ مُعَدٌّ أنْ يفعل؛ إن لم يزجر، ومنها: السَّتْر والإبقاء على من فعل، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد وَعَدَ المؤمِنِينَ النَّصْرَ يَومَئِذٍ على خبر اللَّه؛ إنْ صَبَرُوا وجَدُّوا، فصَدَقَهُم اللَّه وعْدَه؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَافَّ المشركين يومئذ، ورتَّب الرماة، على ما قَدْ ذكَرْناه قَبْلَ هذا، واشتعلت نارُ الحَرْب، وأبلى حمزةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وأَبُو دُجَانَةَ، وعليٌّ، وعَاصِمُ بْنُ أَبِي الأَقْلَحِ، وغيرُهم، وانهزم المشركُونَ، وقُتِلَ منهم اثنان وعشْرُونَ رجُلاً، فهذا معنى قوله عز وجل: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، والحَسُّ: القتل الذَّريعُ، يقال: حَسَّهُمْ إذا استأصلهم قتْلاً، وحَسَّ البَرْدُ النَّباتَ. وقوله سبحانه: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ}، يحتملُ أنْ تكونَ «حتى» غايةً؛ كأنه قال: إلى أنْ فشلتم، والأظهر الأقوى أنَّ «إذا» على بابها تحتاجُ إلى الجوابِ، ومَذْهَبُ الخَلِيلِ، وسِيبَوَيْهِ، وفُرْسَانِ الصِّنَاعة؛ أنَّ الجوابَ محذوفٌ يدلُّ عليه المعنى، تقديرُهُ: انهزمتم، ونحوه، والفَشَل: استشعار العَجْزِ، وترْكُ الجِدِّ، والتَّنَازُعُ هو الَّذي وقَعَ بَيْنَ الرماةِ، {وَعَصَيْتُمْ}: عبارةٌ عن ذَهَابِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرماة، وتأمَّل (رحمك اللَّه) ما يوجبه الركُونُ إلى الدنيا، وما يَنْشَأُ عنها من الضَّرَرِ، وإذا كان مَثَلُ هؤلاءِ السَّادة على رِفْعَتِهِمْ وعظيمِ منزلتهم، حَصَلَ لهم بسببها مَا حَصَلَ؛ مِنَ الفَشَل والهزيمةِ، فكيف بأمثالنا، وقد حذَّرَ اللَّه عز وجلَّ ونبيُّه عليه السلام من الدُّنْيا وآفاتها؛ بما لا يخفى على ذي لُبٍّ، وقد ذكرنا في هذا «المُخْتَصَرِ» جملةً كافيةً لمَنْ وفَّقه اللَّه، وشَرَح صدْره، وقد خرَّج البَغَوِيُّ في «المُسْنَدِ المُنْتَخَبِ» له، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " لاَ تُفْتَحُ الدُّنْيَا على أَحَدٍ إلاَّ أَلْقَتْ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " انتهى من «الكوكب الدري». وقال- عليه السلام- للأنْصَارِ: لما تعرَّضوا له؛ إذْ سمعوا بقُدُوم أبي عُبَيْدةِ بمالِ البَحْرَيْنِ: " أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ، مَا الفَقْرَ أخشى عَلَيْكُم وَلَكِنِّي أخشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ؛ كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُم كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ "، أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ والترمذيُّ، واللفظ له، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. انتهى. واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ تيسير أسْبَابِ الدُّنْيا مع إعراضك عن أمر آخرتك، ليس ذلك من علاماتِ الفَلاَحِ؛ وقد روى ابنُ المُبَارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ؛ أنَّ رجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا؟ قَالَ: " إذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ حَسَنَةٍ، وَإذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ قَبِيحَةٍ " انتهى، فتأمَّله راشداً، وقولَه: {مِّن بَعْدِ مَا أراكم مَّا تُحِبُّونَ}، يعني: هزيمةَ المشركين، قال الزُّبَيْر، واللَّه، لَقَدْ رأيتُنِي أنْظُرُ إلى خَدَمِ هنْدِ بنْتِ عُتْبَةَ، وصواحِبِهَا مشَمِّراتٍ هَوَارِبَ، ما دُونَ أخْذِهِنَّ قليلٌ، ولا كثيرٌ؛ إذ مالَتِ الرماةُ إلى العَسْكَر حين كَشَفْنَا القَوْمَ عَنه، يريدون النَّهْبَ، وخَلَّوْا ظهورَنَا للخَيْلِ، فَأُوتِينَا مِنْ أَدْبَارنا، وصَرَخَ صَارِخٌ أَلاَ إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، وانكفأ علينا القومُ. وقوله سبحانه: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}، يعني بهم الذين حَرَصُوا على الغنيمة، وكان المالُ همَّهم؛ قاله ابنُ عَبَّاسٍ، وسائرُ المفسِّرين، وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ مسْعود: ما كنتُ أرى أنَّ أحداً مِنْ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يريدُ الدنيا؛ حتى نَزَلَ فينا يَوْمَ أُحُدٍ: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}. وقوله سبحانه: {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة} إخبارٌ عن ثبوتِ مَنْ ثَبَتَ من الرُّماة، مع عبد اللَّه بن جُبَيْر؛ امتثالا للأمْر حتى قُتِلُوا، ويدخلُ في هذا أنَسُ بْنُ النَّضْر، وكلُّ من جَدَّ ولم يَضْطَرِبْ من المؤمنين.
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} وقوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} العامل في إذ قوله «عفا» وقراءة الجمهور «تصعدون» (بضم التاء، وكسر العين)؛ من: أصْعَدَ، ومعناه: ذَهَبَ في الأَرْضِ، والصعيدُ: وجهُ الأرض، ف «أَصْعَدَ»: معناه: دَخَلَ في الصَّعيد؛ كما أنَّ «أَصْبَحَ»: دخل في الصَّبَاحِ. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} مبالغةٌ في صفةِ الانهزامِ، وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: «على أُحُدٍ» (بضم الألف والحاء)، يريد الجَبَلَ، والمَعنِيُّ بذلك نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان على الجَبَلِ، والقراءةُ الشهيرةُ أقوى؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ علَى الجَبَلِ إلاَّ بعد ما فَرَّ الناسُ، وهذه الحالُ مِنْ إصعادهم إنَّما كانتْ، وهو يدعوهم، ورُوِيَ أنَّه كان يُنَادِي صلى الله عليه وسلم: " إلَيَّ، عِبَادَ اللَّهِ "، والناسُ يفرُّون، وفي قوله تعالى: {فِي أُخْرَاكُمْ}: مدْح له صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك هو موقِفُ الأبطالِ في أعْقَابِ النَّاس؛ ومنه قولُ الزُّبِيْرِ بْنِ باطا: ما فَعَل مقدِّمتُنا إذَا حَمَلْنا، وحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا؛ وكذلك كَانَ صلى الله عليه وسلم أشْجَعَ الناسِ؛ ومنه قولُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: كِنَّا إذا احمر البَأْسُ، اتقيناه برَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {فأثابكم}: معناه: جازاكُمْ على صنيعكم، واختلف في معنى قوله تعالى: {غَمّاً بِغَمٍّ}، فقال قوم: المعنى: أثابكم غَمًّا بسبب الغمِّ الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائرِ المسلمينَ بفَشَلكم، وتَنَازُعِكم، وعِصْيَانكم. قال قتادة، ومجاهد: الغَمُّ الأول: أنْ سَمِعُوا أَلاَ إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، والثاني: القَتْلُ والجِرَح. وقوله تعالى: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ}، أي: من الغنيمة، ولا ما أصابكم، أي: من القَتْل والجِرَاحِ، وذُلِّ الانهزام، واللامُ من قوله: «لكَيْ لاَ» متعلِّقة ب «أثَابَكُمْ»، المعنى: لتعلموا أنَّ ما وقَعَ بكُمْ إنما هو بجنايَتِكُمْ، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادةُ البَشَر أنَّ جانِيَ الذنْبِ يَصْبِرُ للعقوبة، وأكْثَرُ قَلَقِ المعاقَبِ وحُزْنِهِ، إنما هو مع ظَنِّه البراءةَ بنَفْسه، ثم ذكر سبحانه أمْرَ النُّعَاس الذي أَمَّنَ به المؤمنِينَ، فغشي أهْل الإخلاص، قُلْتُ: وفي «صحيح البخاريِّ»، عن أنسٍ؛ أنَّ أبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا النُّعَاسُ، ونَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، ونحْوه عن الزُّبَيْر، وابنِ مسْعود، «والواوُ» في قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}، واو الحال، ذَهَب أكثر المفسِّرين إلى أنَّ اللفظة من الهَمِّ الذي هو بمعنَى الغَمِّ والحُزْن. وقوله سبحانه: {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق}: معناه: يظنُّون أنَّ دين الإسلام ليس بحقٍّ، وأنَّ أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم يضمحلُّ. قلْتُ: وقد وردَتْ أحاديثُ صِحَاحٌ في الترغيبِ في حُسْن الظَّنِّ باللَّه عزَّ وجلَّ، ففي «صحيح مُسْلِم»، وغيره، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاكِياً عن اللَّه عزَّ وجلَّ يقولُ سبْحَانه: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... " الحديثَ، وقال ابْنُ مَسْعود: واللَّه الَّذِي لاَ إله غيره، لا يُحْسِنُ أحَدٌ الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ إلا أعطاه اللَّهُ ظنَّه، وذلك أنَّ الخَيْر بيده، وخرَّج أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيب بسنده، عن أنَسِ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ " اه. وقوله: {ظَنَّ الجاهلية}: ذهب الجمهورُ إلى أنَّ المراد مدَّة الجاهليَّة القديمَة قَبْل الإسلام، وهذا كقوله سبحانه: {حَمِيَّةَ الجاهلية} [الفتح: 26] و{تَبَرُّجَ الجاهلية} [الأحزاب: 33] وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المراد في هذه الآيةِ ظَنُّ الفِرْقَةِ الجاهليَّة، وهم أبو سُفْيَانَ ومن معه، قال قتادة وابْنُ جُرَيْج: قيل لعبد اللَّه ابْن أُبَيٍّ ابن سَلُولَ: قُتِلَ بَنُو الخَزْرَجِ، فَقَالَ: وهلْ لنا من الأمْرِ من شَيْء، يريدُ أنَّ الرأْيَ ليس لنا، ولو كان لَنَا منْهُ شيْءٌ، لسمع مَنْ رأينا، فلم يَخْرُجْ، فلم يُقْتَلْ أحدٌ منا. وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراضٌ أثناء الكلامِ فصيحٌ، ومضمَّنه الردُّ عليهم، وقوله سبحانه: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ...} الآية: أخبر تعالى عنهم على الجُمْلة دُونَ تَعْيين، وهذه كانَتْ سُنَّتَهُ في المنافقينَ، لا إله إلا هو. وقوله سبحانه: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} هي مقالةٌ سُمِعَتْ من مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ المغموصِ عليه بالنِّفَاق، وباقي الآية بيِّن. وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ}: اللام في «ليبتلي» متعلِّقة بفعلٍ متأخِّرٍ، تقديره: وليبتليَ وليمحِّصَ فعْلَ هذه الأمور الواقعة، والابتلاءُ هنا الاختبار. وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} قال عُمَرُ (رضي اللَّه عنه): المرادُ بهذه الآية جميعُ مَنْ تولى ذلك اليَوْمَ عن العدُوِّ. وقيل: نزلَتْ في الذين فَرُّوا إلى المدينةِ. قال ابنُ زَيْد: فلا أدْري، هل عُفِيَ عن هذه الطائفةِ خاصَّة، أمْ عن المؤمنين جميعاً. وقوله تعالى: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}: ظاهره عند جمهور المفسِّرين: أنه كانَتْ لهم ذنوبٌ عاقبهم اللَّه علَيْها بتَمْكين الشيطان من استزلالهم بوسوسَتِهِ وتخويفِهِ، والفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ من الكبائر؛ بإجماعٍ فيما عَلِمْتُ، وقَدْ عده صلى الله عليه وسلم في السَّبْعِ المُوبِقَاتِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإخوانهم...} الآية: نَهَى اللَّه المؤمنِينَ؛ أنْ يكونوا مثل الكفَّار المنافقين في هذا المعتقَدِ الفاسِدِ الذي هو أنَّ من سافر في تجارةٍ ونحوها، ومَنْ قَاتَلَ فَقُتِلَ، لو قعد في بَيْته لعاش، ولم يَمُتْ في ذلك الوَقْتِ الذي عَرَّض فيه نَفْسه للسَّفَر أو للقِتَال، وهذا هو مُعْتَقَدُ المعتزلة في القَوْل بالأَجَلَيْنِ، أو نحو منْه، وصرَّح بهذ المقالة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ المُنَافِقُ، وأصحابه؛ قاله مجاهد وغيره، والضَّرْبُ في الأرض: السيرُ في التِّجَارة، وغُزًّى: جمعُ غازٍ. وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ الله ذلك} الإشارةُ ب «ذَلِكَ» إلى هذا المعتقد الَّذى جعله اللَّه حَسْرةً لهم؛ لأن الذي يتيقن أنَّ كل قَتْل ومَوْت، إنما هو بأجَلٍ سابقٍ يجدُ برد اليأسِ والتسليمِ للَّه سبحانه على قلبه، والذي يَعْتَقِدُ أنَّ حميمه لو قعد في بَيْته، لم يَمْتُ، يتحسَّر ويتلهَّف؛ وعلى هذا التأويل، مَشَى المتأوِّلونَ، وهو أظهرُ مَا في الآية، والتحسُّرُ: التلهُّفُ على الشي، والغَمُّ به. وقوله سبحانه: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} توكيدٌ للنهيْ في قوله: {لاَ تَكُونُواْ} ووعيدٌ لمن خالفه، ووَعْدٌ لمن امتثله. وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} اللامُ في {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} هي المؤذنةُ بمَجِيءِ القَسَمِ، واللامُ في قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} هي المتلقِّية للقَسَمِ، والتقديرُ: واللَّهِ، لمغفرةٌ وترتَّب المَوْتُ قبل القَتْل في قوله تعالى: {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ}؛ مراعاةً لترتُّب الضَّرْب في الأرض والغَزْو، وقدَّم القَتْل هنا؛ لأنَّه الأشرف الأهمُّ، ثم قدَّم المَوْتَ في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ}؛ لأنها آية وعظٍ بالآخرةِ والحَشْرِ، وآيةُ تزهيدٍ في الدنْيَا والحَيَاةِ، وفي الآيةِ تحقيرٌ لأمر الدنيا، وحضٌّ على طَلَبِ الشهادةِ، والمعنى: إذا كان الحَشْر لا بُدَّ في كِلاَ الأمْرَيْن، فالمضيُّ إليه في حالِ شهادةٍ أولى؛ وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ "، رواه الجماعةُ إلاَّ البخاريَّ، وعن أنَسٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً، أُعْطِيِهَا، وَلَوْ لَمْ تُصْبْهُ "، انفرد به مُسْلم. انتهى من «سلاح المؤمن».
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ}: معناه: فبرحمةٍ، قال القُشَيْريُّ في «التحبير»: واعلَمْ أنَّ اللَّه سبحانه يحبُّ من عباده مَنْ يرحم خَلْقه، ولا يرحم العبد إلاَّ إذا رحمه اللَّه سبحانَهُ، قال اللَّه تعالى لنبيِّه عليه السلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ}. اه. قال * ع *: ومعنى هذه الآيةِ التقريعُ لكلِّ مَنْ أخلَّ يومَ أُحُدٍ بمَرْكزه، أي: كانوا يستحقُّون الملام منْكَ، ولكنْ برحمةٍ منه سُبْحَانه لِنْتَ لهم، وجَعَلَكَ على خُلُقٍ عظيمٍ، وبعَثَكَ لتتميمِ محاسنِ الأخلاق، ولو كُنْتَ فظًّا غليظَ القَلْب، لانفضوا مِنْ حولك، وتفرَّقوا عَنْكَ، والفَظُّ: الجافِي في مَنْطِقِهِ وَمَقاطِعِهِ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم في الكُتُب المُنزَّلة: «لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ وَلاَ صَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ»، والفَظَاظة: الجَفْوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، وغِلَظُ القَلْب: عبارةٌ عن تجهُّمِ الوجْهِ، وقلَّةِ الانفعالِ في الرغَائِبِ، وقلَّةِ الإشفاقِ والرَّحْمةِ، والانفضاضُ: افتراق الجموع. وقوله تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ...} الآية: أمر سبحانه نبيَّه عليه السلام بهذه الأوامر التي هِيَ بتدريجٍ بليغٍ، فأمره أنْ يعفو عَنْهم فيما لَهُ علَيْهِمْ مِنْ حَقٍّ، ثُمَّ يستغفر لهم فيما للَّه علَيْهم مِنْ تَبِعَةٍ، فإذا صاروا في هذه الدَّرَجَة، كانوا أهلاً للاستشارة. قال * ع *: ومَنْ لا يستشيرُ أهل العِلْمِ والدِّين، فعَزْلُه واجبٌ، هذا ممَّا لا خلافَ فيه، وقد وردَتْ أحاديثُ كثيرةٌ في الاستشارة، ومُشَاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحَرْب والبُعُوث ونحوه من أشخاصِ النَّوَازِلِ، فأما في حلالٍ، أو حرامٍ، أو حَدٍّ، فتلك قوانينُ شَرْعٍ، ما فرَّطنا في الكتابِ مِنْ شيء، والشورى مبنيَّة على اختلافِ الآراءِ، والمُسْتَشِيرُ ينظر في ذَلِكَ الخلافِ، ويتخيَّر، فإذا أرشده اللَّه إلى ما شاء منْهُ، عزم علَيْه، وأنفذه متوكِّلاً على اللَّه؛ إذ هو غايةُ الاجتهادِ المَطْلُوب منه، وبهذا أمر اللَّه تعالى نبيَّه في هذه الآيةِ، وصِفَةُ المُسْتشارِ في الأحكامِ أنْ يكونَ عالماً ديِّناً، وقلَّما يكونُ ذلك إلاَّ في عاقلٍ، فقَدْ قال الحَسَنُ ابْنُ أبِي الحَسَنِ: ما كَمَلَ دِينُ امرئ لَمْ يَكْمَلْ عَقْلُهُ. قال * ع *: والتوكُّل على اللَّه سبحانه وتعالى مِنْ فروض الإيمانِ وفصولِهِ، ولكنَّه مقترنٌ بالجِدِّ في الطاعاتِ، والتَّشْميرِ والحَزَامَةِ بغايةِ الجُهْدِ، وليس الإلقاء باليدِ وما أشبهه بتوكُّل، وإنما هو كما قال عليه السلام: " قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ ". وقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} هذه غايةٌ في الرِّفْعة، وشَرَفِ المنزلةِ، وقد جاءت آثار صحيحةٌ في فَضْل التوكُّلِ وعظيمِ منزلةِ المتوكِّلين، ففي «صحيح مُسْلِمٍ» عن عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنِ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالُوا: مَنْ هُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ، وَلاَ يَستَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " وخَرَّج أبو عيسَى التِّرمذيُّ، عن أبي أُمَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِل الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي "، وخرَّجه ابن ماجة أيضاً، وخرَّج أبو بَكْرٍ البَزَّارُ، وأبو عَبْدِ اللَّهِ التِّرمذيُّ الحكيمُ، عنْ عبد الرحمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصديقِ (رضي اللَّه عنه)، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته قَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ الأَلْفَ سَبْعِينَ أَلْفاً، فقالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته، فَقَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي هَكَذَا، وفَتَحَ أَبُو وَهْبٍ يَدَيْهِ، قَالَ أَبُو وَهْبٍ: قَالَ هِشَامٌ: هَذَا مِنَ اللَّهِ لاَ يدرى، مَا عَدَدُهُ "، وخرَّج أبو نُعَيْمٍ، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّة مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، قَالَ: وَهَكَذَا، وَأَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ النَّاسَ الجَنَّةَ بِحَفْنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ عُمَرُ» " اه من «التذكرة»، وما وقَعَ من ذكْرِ الحَثْيَةِ والحَفْنَةِ لَيْسَ هو على ظاهره، فاللَّه سبحانه منزَّه عن صفَاتِ الأجْسَامِ. وقوله تعالى: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} أيْ: يترككم، والخذل الترك، والضميرُ في: {مِن بَعْدِهِ} يعودُ على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ على الخِذْلِ.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، قرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وعاصم: «أَنْ يَغُلَّ»؛ بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: «أَنْ يُغَلَّ»؛ بضم الياء، وفتح الغين، واللفظةُ بمعنى الخِيَانة في خَفَاءِ، تقولُ العربُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ يُغِلُّ إغْلاَلاً، إذا خان، واختلفَ عَلَى القراءة الأولى، فقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: نزلَتْ بسبب قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ من المغانمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فقال بعضُ النَّاس: لعلَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فقيلَ: كانت هذه المَقَالَةُ مِنْ مؤمِنٍ لم يَظُنَّ في ذلك حَرَجاً. وقيل: كانَتْ من منافِقين، وقد رُوِيَ أن المفقود إنما كَانَ سَيْفاً، قال النَّقَّاش: ويقال: إنما نزلَتْ؛ لأن الرماة قالوا يوم أُحُدٍ: الغنيمةَ الغنيمةَ، فإنا نخشى أنْ يَقُولَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَخَذ شيئاً، فهو له، وقال ابْنُ إسحاق: الآية إنما أنزلَتْ، إعلاماً بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً مما أُمِرَ بتبليغه. وأمَّا على القراءة الثانيةِ، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحدٍ أنْ يغل النبيَّ، أيْ: يخونه في الغنيمة؛ لأنَّ المعاصِيَ تَعْظُمُ بحَضْرته؛ لتعيين توقيره. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: وهذا القولُ هو الصحيحُ، وذلك أنَّ قوماً غَلُّوا من الغنائمِ، أو هَمُّوا، فأنزل اللَّه تعالَى الآية، فنهاهُمُ اللَّه عن ذلك، رواه الترمذيُّ. انتهى. وقوله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة...} الآية: وعيدٌ لِمَنْ يغل من الغنيمة، أو في زكاته بالفَضِيحَة يَوْمَ القيامة على رءوس الأَشهاد، قال القرطبيُّ في «تذكرته»: قال علماؤنا (رحمهم اللَّه) في قوله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة}: إنَّ ذلك عَلَى الحقيقةِ؛ كما بيَّنه صلى الله عليه وسلم، أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثِقَلِهِ، ومروَّعاً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديثِ عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا الْخَائِطَ وَالمَخِيطَ؛ فَإنَّ الغُلُولَ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ على أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ " رواه مالكٌ في «الموطَّأ»، قال أبو عُمَرَ في «التمهيد»: الشَّنَار: لَفْظَةٌ جامعةٌ لمعنَى العَارِ وَالنَّارِ، ومعناها الشَّيْن، والنَّار؛ يريد أن الغلول شَيْنٌ وعارٌ ومنْقَصَة في الدُّنْيا، وعذابٌ في الآخرة. انتهى، وفي الباب أحاديثُ صحيحةٌ في الغُلُولِ، وفي مَنْعِ الزكاة. وقوله سبحانه: {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله}، أي: الطاعة الكفيلة بِرضْوَان اللَّه. قال * ص *: «أَفَمَنْ»: استفهام، معناه: النَّفْيُ، أي: ليس مَنِ اتبع مَا يَئُولُ به إلى رِضَا اللَّه تعالى عَنْه؛ فباء برضَاه، كَمَنْ لم يَتَّبِعْ ذلك؛ فباء بسَخَطه. انتهى. وقوله سبحانه: {هُمْ درجات عِندَ الله} قال ابنُ إسحاق وغيره: المراد بذلك الجَمْعَانِ المذكورانِ؛ أهل الرِّضْوان، وأصحاب السَّخَط، أيْ: لكلِّ صِنْفٍ منهم تَبَايُنٌ في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النَّار أيضاً، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ ما ظاهره: أن المراد بقوله: «هم»، إنما هو لمتبعي الرضْوان، أي: لهم درجاتٌ كريمةٌ عند ربهم، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: هُمْ ذَوْو دَرَجَاتٍ، والدرجاتُ: المنازلُ بعضها أعلى من بعض في المَسَافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآيةِ وعْدٌ ووعيدٌ.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ...} الآية: اللامُ في «لَقَدْ»: لام القسم، «ومَنَّ» في هذه الآية: معناه: تطوَّل وتفضَّل سبحانه، وقد يقال: «مَنَّ» بمعنى كَدَّرَ مَعْرُوفَهُ بالذِّكْرِ، فهي لفظةٌ مشتركة، وقوله: {مِّنْ أَنفُسِهِمْ}، أي: في الجنْسِ، واللسانِ، والمُجَاورةِ، فكونه مِنَ الجنْسِ يوجبُ الأنْسَ به، وكونُه بِلِسانِهِمْ يوجِبُ حُسْنَ التفهيم، وكونُه جَاراً ورَبِيًّا يوجِبُ التصديقَ والطُّمأنينة؛ إذ قد خَبَرُوه وعَرَفُوا صِدْقَه وأمانته، ثم وقَف اللَّه سبْحانه المؤمنين عَلَى الخَطَإ في قَلَقِهِمْ للمُصِيبة الَّتي نزلَتْ بهم، وإعراضهم عمَّا نَزَلَ بالكُفَّار، فقال: {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ}، أي: يوم أُحُدٍ {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا}، أيْ: يوم بَدْر؛ إذ قتل من الكُفَّار سبعون، وأسر سَبْعُون، هذا تفْسِيرُ ابنِ عَبَّاس، والجمهورِ. وقال الزَّجَّاج: وَاحِدُ المِثْلَيْن: هو قتْلُ السبعينَ يَوْمَ بَدْر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين يَوْمَ أحد، ولا مَدْخَل للأسرى؛ لأنهم قد فُدُوا. و {إنى}: معناها: كَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ، {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، أي: حين خالفتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الرأْيِ حينَ رأى أنْ يقيمَ بالمَدينة، ويترك الكُفَّار بَشَّر مَحْبِسٍ، فأبيتم إلا الخُرُوجِ، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقالَتْ طائفة: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}: إشارةٌ إلى عصيانِ الرُّمَاة، وتسبيبهم الهَزيمة عَلَى المؤمنين، وقال عليٌّ والحَسَن: بل ذلك لِمَا قَبِلُوا الفِدَاءَ يَوْمَ بدر؛ وذلك أنَّ اللَّه سبحانه أخبرهم على لسانِ نبيِّه بَيْنَ قَتْل الأسرى أو يأخذوا الفِدَاءَ على أنْ يُقْتَلَ منْهم عدَّة الأسرى، فاختاروا أَخْذَ الفدَاءِ، ورَضُوا بالشَّهَادةِ، فقُتِلَ منهم يوْمَ أحدٍ سَبْعُونَ، قلْتُ: وهذا الحديثُ رواه الترمذيُّ عنْ عليٍّ (رضي اللَّه عنه)، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أحمدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: وعَنِ الضَّحَّاك: {أنى هذا}، أيْ: بأيِّ ذنب هذا؟ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} عقوبةً لمعصيتكم لنبيِّكم عليه السلام. انتهى.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} وقوله سبحانه: {وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان}، يعني: يوم أُحُد. وقوله سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين}، أيْ: ليعلم اللَّه المؤمن مِنَ المُنَافق، والإشارة بقوله سبحانه: {نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ}: هي إلى عَبْد اللَّه بن أبَيٍّ وأصحابه، حين انخزل بنَحْو ثُلُث النَّاسِ، فمشى في إثرهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزَامٍ أبُو جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فقَالَ لهم: اتقوا اللَّهَ، ولا تَتْرُكُوا نبيَّكم، وقاتلوا في سَبيلِ اللَّهِ، أو ادفعوا، ونحْوَ هذا من القولِ، فقال له ابْنُ أُبَيٍّ: ما أرى أَنْ يكُونَ قِتَالاً، ولو علمْنا أنْ يكُونَ قتَالٌ، لكنا معكم، فلما يَئِسَ منهم عبْدُ اللَّهِ، قال: اذهبوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيْغُنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ، ومضى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستشهد. وقوله تعالى: {أَوِ ادفعوا}، قال ابنُ جُرَيْجٍ وغيره: معناه: كَثِّروا السوادَ، وإنْ لم تقاتِلُوا، فيندفع القَوْم؛ لكثرتِكُمْ، وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «أو ادفعوا»: استدعاء للقتَالِ حميَّةً؛ إذ ليسوا بأهْلٍ للقتال في سبيل اللَّه، والمعنى: قاتلوا في سبيل اللَّه، أو قاتلوا دفاعاً عن الحَوْزَة؛ ألا ترى أنَّ قُزْمَانَ قَالَ في ذلك اليَوْمِ: واللَّهِ، ما قاتلْتُ إلاَّ على أحساب قَوْمِي، وقَوْلِ الأنصاريِّ يومئذ؛ لَمَّا أرسلَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ في الزُّروع: أترعى زُرُوعَ بَنِي قَيْلَةَ، وَلَمَّا نُضَارِبْ.
{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} وقوله تعالى: {الذين قَالُواْ لإخوانهم وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، {الذين} بدل من {الذين} المتقدِّم، {لإخوانهم}، أي: لأجْلِ إخوانهم، أوْ في شأنِ إخوانهم المقتولِينَ، ويحتمل أنْ يريد: لإخوانهم الأحياءِ مِنَ المُنَافِقِينَ، ويكون الضميرُ في «أَطَاعُونَا» للمقتولين، وقَعَدُوا: جملةٌ في موضِعِ الحالِ، معترضةٌ أثْنَاءَ الكلامِ، وقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا}، يريدون: في ألاَّ يخرُجُوا، وباقِي الآيةِ بَيِّن. ثم أخْبَرَ سبحانه عن الشهداءِ؛ أنهم في الجنَّة أحياءٌ يرزقُونَ، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قال: " إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ، فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ، فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، لاَ فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَنَا، هَذِهِ الجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ، لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إلَى الدُّنْيَا، فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ، فَنُقْتَلُ مَرَّةً أخرى، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: «قَدْ سَبَقَ أَنَّكُمْ لاَ تُرَدُّونَ "، والأحاديثُ في فَضْل الشُّهَداء كثيرةٌ. قال الفَخْر: والرواياتُ في هذا البابِ كأنَّها بلَغَتْ حدَّ التواتر، ثم قَالَ: قال بعْضُ المفسِّرين: أرواحُ الشُّهَدَاءِ أحياءٌ، وهي تركَعُ وتَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ إلى يَوْمِ القِيامةِ. انتهى. والعقيدةُ أنَّ الأرواحَ كلَّها أحياء، لا فرق بَيْن الشهداءِ وغيرهم في ذلك إلاَّ ما خَصَّص اللَّه به الشُّهداءَ مِنْ زيادَةِ المَزِيَّة والحياةِ الَّتِي ليْسَتْ بمكيَّفة، وفي «صحيح مسْلِمٍ»، عن مَسْرُوقٍ قال، سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ}، فقال: أَمَّا أَنَا، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ، يَعْنِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم: " أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ... " الحديثَ إلى آخره اه. ومن الآثار الصحيحةِ الدالَّة على فَضْلِ الشُّهداءِ ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ»؛ أنه بلَغَهُ أنَّ عمرو بْنَ الجَمُوحِ، وعبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأنصارِيَّيْنِ ثُمَّ السُّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قبرهما، وكان قَبْرُهما ممَّا يَلِي السَّيْلَ، وكانا في قَبْرٍ واحدٍ، وهما مِمَّن استشهد يَوْمَ أُحُدٍ، فحفر عنهما ليغيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا، فَوُجِدَا لم يُغَيَّرا، كأنما ماتا بالأمْسِ، وكان أحدُهُما قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ على جُرْحِهِ، فَدُفِنَ، وهو كذلك، فَأُمِيطَتْ يده عَنْ جُرْحِهِ، ثم أرْسِلَتْ، فَرَجَعَتْ، كما كانَتْ، وكان بَيْنَ أُحُدٍ، وبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وأربعون سنَةً، قال أبو عمر في «التمهيد»: حديثُ مالكٍ هذا يتَّصلُ من وجوهٍ صحاحٍ بمعنى واحدٍ متقاربٍ، وعبد اللَّه بن عمرو هذا هو والدُ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وعَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ هو ابنُ عَمِّه، ثم أسند أبو عمر، عن جابرِ بنِ عبْدِ اللَّهِ، قال: لما أراد معاويةُ أنْ يُجْرِيَ العَيْنَ بأُحُدٍ، نُودِيَ بالمدينةِ: مَنْ كان له قتيلٌ، فليأت قتيله، قال جابرٌ: فأتيناهم، فأخرجْنَاهم رطَاباً يَتَثَنَّوْنَ، فأصابَتِ المِسْحَاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فانفطرت دَماً، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: «لاَ يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكَرٌ أَبداً» وفي رواية: «فاستخرجهم يعني: معاويةَ، بعد سِتٍّ وأربعين سنَةً لَيِّنَةً أجسادُهم، تتثنى أطرافهم»، قال أبو عمر: الذي أصابَتِ المِسْحَاةُ أصبُعَهُ هو حمزةُ (رضي اللَّه عنه). ثم أسند عَنْ جابِرٍ قال: رأَيْتُ الشهداءَ يَخْرجُونَ على رِقَابِ الرجَالِ؛ كأنهم رجَالٌ نُوَّمٌ؛ حتى إذا أَصَابَتِ المِسْحَاةُ قَدَمَ حمزةَ (رضي اللَّه عنه): «فانثعبت دَماً» انتهى. وقوله سبحانه: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم...} الآية: معناه: يُسَرُّونَ، ويَفْرَحُونَ، وذهَبَ قتادة وغيره إلى أنَّ استبشارهم هو أنهم يقولُونَ: إخواننا الذين تركْنَاهم خَلْفَنَا في الدنيا يُقَاتِلُونَ في سَبيل اللَّه مع نبيِّهم، فيستشهدُونَ، فينالُونَ مِنَ الكرامَةِ مِثْلَ ما نِلْنَا نَحْنُ، فيسرُّون لهم بذلك؛ إذْ يحصُلُونَ لا خَوْفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، وذهب فريقٌ من العلماءِ إلى أَنَّ الإشارة في قوله: {بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ}، إلى جميع المؤمنين الَّذِينَ لم يلحقوا بهم في فَضْل الشهادة؛ وذَلك لِمَا عايَنُوا من ثوابِ اللَّهِ، فهم فَرِحُونَ لأنفسهم بما آتاهم اللَّه مِنْ فضله، ومُسْتَبْشِرُون للمؤمنين أنَّهم لا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُونَ؛ ثم أكَّد سبحانه استبشارهم بقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ}، ثم بيَّن سبحانه بقوله: {وَفَضْلٍ}، أنَّ إدخالَهُ إياهم الجَنَّةَ هو بفَضْل مِنْه، لا بعملِ أَحَدٍ، وأمَّا النعمة في الجَنَّة، والدَّرجاتُ، فقد أخبر أنَّها على قَدْر الأعمال. قُلْتُ: وخرَّج أبو عبد اللَّهِ الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ صَاحِبُ ابن المبارَكِ في «رقائقه»، بسنده، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي؛ " أنَّ الشُّهداءَ فِي قِبابٍ مِنْ حَرِيرٍ فِي رِياضٍ خُضْرٍ، عِنْدَهُمْ حُوتٌ وَثَوْرٌ، يَظَلُّ الحُوتُ يُسَبِّحُ فِى أَنْهَارِ الجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ رائِحَةٍ فِي أَنْهَارِ الجَنَّةِ، فَإذَا أمسى وَكَزَهُ الثَّوْرُ بقَرْنِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ لَحْمَهُ، يَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ، وَيَبِيتُ الثَّوْرُ فِي أَفْنَاءِ الجَنَّةِ، فَإذَا أَصْبَحَ، غَدَا عَلَيْهِ الحُوتُ، فَوَكَزَهُ بِذَنَبِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ، فَيَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ فِي الجَنَّةِ، ثُمَّ يَعُودُونَ، وَيَنْظُرُونَ إلى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ... " الحديثَ. انتهى. مختصرًا، وقد ذكره صاحب «التذكرة» مطوَّلاً. وقرأ الكِسَائِيُّ: «وَإنَّ اللَّهَ»؛ بكسر الهمزة؛ على استئناف الإخبار، وقرأ باقي السبعة بالفتْحِ على أنَّ ذلك داخلٌ فيما يُسْتبشر به، وقوله: {الذين استجابوا} يحتملُ أنْ يكون صفَةً للمؤمنين؛ على قراءة مَنْ كَسَر الألف من «إنَّ»، والأظهر أنَّ الذين ابتداءٌ، وخبره في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ...}، والمستجيبُونَ للَّه والرسولِ: هم الذين خرَجُوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى حَمْرَاءِ الأَسَدِ في طَلَبِ قُرَيْش.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} وقوله سبحانه: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ...} الآية: «الذين»: صفةٌ للمحسنين، وهذا القولُ هو الذي قاله الركْبُ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ لرسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حِينَ حَمَّلَهُمْ أبُو سُفْيَانَ ذلكَ، «فالنَّاسُ» الأوَّلُ هُمُ الرَّكْبُ، و«النَّاسُ» الثَّانِي عَسْكَر قُرَيْش؛ هذا قول الجمهورِ، وهو الصوابُ، وقولُ مَنْ قال: إن الآية نزلَتْ في خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى بَدْرٍ الصغرى لميعاد أبي سُفْيان، و{إِنَّ الناس} هنا هو نُعيْمُ بْنُ مسعودٍ قولٌ ضعيفٌ، وعن ابنِ عَبَّاسٍ؛ أنه قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» قَالَهَا إبْرَاهِيمُ عليه السلام، حينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وقَالَها محمَّد صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إيمانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، رواه مسلمٌ. والبخاريُّ. انتهى.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} وقوله سبحانه: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ...} الآية: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الرَّكْب عن رسالة أبِي سُفْيَان، ومِنْ جَزَعِ مَنْ جَزِعَ من الخَبَر. وقرأ الجمهورُ: «يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ»، قالَ قوم: معناه: يخوِّف المنافقينَ، ومَنْ في قلبه مرضٌ، وحكى أبو الفَتْحِ بْنُ جِنِّي، عن ابن عَبَّاس؛ أنه قرأ «يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ»، فهذه قراءةٌ ظهر فيها المفعولانِ، وهي مفسِّرة لقراءة الجَمَاعة، وفي قراءة أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ»، وفِي كتاب «القَصْد إلى اللَّه تعالى»؛ للمحاسِبِيِّ، قال: وكلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه. انتهى. وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون فِى الكفر}، والمسارعة في الكُفْر: هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله، والجِدُّ في ذلك، وسَلَّى اللَّه تعالى نبيَّه عليه السلام بهذه الآية عنْ حالِ المنافقين والمجاهِرِين؛ إذ كلُّهم مسارعٌ، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}: خبرٌ في ضِمْنِهِ وعيدٌ لهم، أي: وإنما يضرُّون أنفسهم، والحَظُّ: إذا أطلق، فإنما يستعملُ في الخير، وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ}: نُمْلِي: معناه: نُمْهِلُ ونَمُدُّ في العمر، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ إملاءنا للذين كَفَرُوا خَيْراً لهم، فالآيةُ ردٌّ على الكفَّار في قولهم: إنَّ كوننا مموَّلِينَ أصحَّة دليلٌ على رِضا اللَّه بحالتنا.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)} وقوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ}، أيْ: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مُشْكِلاً أمرَهُم؛ حتى يميز بعْضَهُم مِنْ بعض؛ بما يظهره مِنْ هؤلاء وهؤلاء في «أُحُدٍ» من الأفعال والأقوال، هذا تفسيرُ مجاهد وغيره. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب}، أي: في أمر أُحُدٍ، وما كان من الهزيمة وأيضاً: فما كان اللَّه ليطلعكم على المنافقين تصريحاً وتسميةً لهم، ولكنْ بقرائنِ أفعالهم وأقوالهم. قال الفَخْر: وذلك أنَّ سنة اللَّه جاريةٌ بأنَّه لا يُطْلِعُ عوامَّ الناس على غَيْبِهِ، أي: لا سبيلَ لكم إلى معرفة ذلك الإمتياز إلاَّ بامتحانات؛ كما تقدَّم، فأمَّا معرفةُ ذلك على سبيلِ الإطلاعِ مِنَ الغَيْبِ، فهو من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}. انتهى. وقال الزَّجَّاج وغيره: رُوِيَ أنَّ بعض الكُفَّار قال: لِمَ لا يكونُ جميعنا أنبياءَ، فنَزَلَتْ هذه الآيةُ، و{يَجْتَبِي}: معناه: يَخْتَارُ ويصْطَفِي، وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} الآية: قال السُّدِّيُّ وجماعةٌ من المتأوِّلين: الآية نزلَتْ في البُخْل بالمال، والإنفاقِ في سبيل اللَّه، وأداء الزكاة المفْرُوضَة، وَنحْو ذلك، قال: ومعنى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} هو الذي ورد في الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: " مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ، فَيَسْأَلَهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلاَّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ؛ حتى يُطَوَّقَه "، قُلْتُ: وفي البخاريِّ وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْخُذُ بلَهْزَمَتَيْهِ، يَعْنِي: شِدْقَيهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ هذه الآيةَ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ...} " الأية. قلْتُ: واعلم أنه قد وردَتْ آثار صحيحةٌ بتعذيبِ العُصَاة بنَوْعٍ مَا عَصَوْا به؛ كحديث: " مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَهُوَ يَجَأُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَتِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ "، ونحو ذلك. قال الغَزَّالِيُّ في «الجَوَاهِرِ»: واعلم أنَّ المعانِيَ في عالم الآخرة تستتبعُ الصُّور، ولا تَتْبَعُها، فيتمثَّل كلُّ شيء بصورة تُوَازِي معناه، فيُحْشَرُ المتكبِّرون في صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ مَنْ أَقْبَل وأَدْبَر، والمتواضِعُون أعزَّاء. انتهى، وهو كلام صحيحٌ يشهد له صحيحُ الآثارِ؛ ويؤيِّده النظَرُ والإعتبار، اللَّهم، وفِّقنا لما تحبُّه وترضاه. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: قال عُلَماؤنا: البُخْل: مَنْعُ الواجبِ، والشُّحُّ: منع المستحَبِّ، والصحيحُ المختارُ أنَّ هذه الآيةَ في الزكاة الواجبَة؛ لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعيها، والوعيدُ إذا اقترن بالفعْلِ المأمورِ به، أو المنهيِّ عنه، اقتضى الوجوبَ أو التحريمَ. انتهى. وتعميمها في جميع أنْواع الواجب أحْسَنُ. وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} خطابٌ على ما يفهمه البشر، دَالٌّ على فناء الجميعِ، وأنه لا يبقى مَالِكٌ إلاَّ اللَّه سبحانه.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} وقوله سبحانه: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ...} الآية: نزلَتْ بسبب فِنْحَاصٍ اليَهُودِيِّ وأشباهه؛ كَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وغيره، لمَّا نزلَتْ: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11]، قالوا: يستقرضُنا ربُّنا، إنما يَسْتَقْرِضُ الفَقِيرُ الغَنِيَّ، وهذا مِنْ تحريف اليهودِ للتأويل علَى نحو ما صَنَعُوا في تَوْرَاتِهِمْ. وقوله تعالى: {قَوْلَ الذين قَالُواْ}: دالٌّ على أنَّهم جماعةٌ. وقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ...} وعيدٌ لهم، أي: سنُحْصِي عليهم قولَهُمْ، ويتصلُ ذلك بفعل آبائهم مِنْ قَتْل الأنبياءِ بغَيْر حَقٍّ. وقوله سبحانه: {إِنَّ الله}؛ أي: وبأنَّ اللَّه ليس بظَلاَّم للعبيد. قال * ص *: قيل: المراد هنا نفْيُ القليلِ والكثيرِ مِنَ الظُّلْم؛ كقول طَرَفَةَ: [الطويل]. وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً *** وَلَكِنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ ولا يريدُ: أنه قدْ يحلُّ التلاعَ قليلاً. وزاد أبو البقاءِ وجْهاً آخر، وهو أنْ يكون على النَّسَبِ، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى، قلتُ: وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم، أي: بذي ظُلْم.
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)} وقوله سبحانه: {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا...} هذه المقالَةُ قالَتْها أحْبَارُ اليهودِ مدافعةً لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنَّك لم تأْتِنَا بقُرْبان تأكله النار، فنَحْنُ قد عُهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لك. وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ}؛ مِنْ أمْر القُرْبان، والمعنى: أنَّ هذا منكم تعلُّل وتعنُّت، ولو أتيتُكُمْ بقُرْبَان، لتعلَّلتم بغَيْرِ ذلك، ثم أَنَّسَ سبحانه نبيَّه بالأُسْوة والقُدْوة فيمن تقدَّم من الأنبياء. قال الفَخْر: والمرادُ {بالبينات} المعجزاتُ. انتهى. والزُّبُر: الكتابُ المكتوبُ، قال الزَّجَّاج: زَبَرْتُ: كَتَبْتُ.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت...} الآية: وعْظٌ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولأمته عن أمْرِ الدُّنْيا وأهلِها، ووَعْدٌ بالفلاحِ في الآخرةِ؛ فبالفكْرة في المَوْت يَهُونُ أمر الكُفَّار وتكذيبُهم، {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ}، أي: على الكمالِ، ولا محَالَة أنَّ يوم القيامةِ تَقَعُ فيه توفيةُ الأجور، وتوفيةُ العُقُوبات، و{زُحْزِحَ}: معناه: أبعد، والمَكَانُ الزَّحْزَاحُ: البعيدُ، {وفَازَ}: معناه: نَجَا من خَطَره وخَوْفه، و{الغرور}: الخَدْعُ، والتَّرْجِيَةُ بالباطل والحياةِ الدنيا، وكلُّ ما فيها من الأموالِ هي متاعٌ قليلٌ يخدَعُ المرء، ويمنِّيه الأباطيلَ؛ وعلى هذا فسَّر الآيةَ جمهورُ المفسِّرين، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثم تَلاَ هذه الآيةَ، قُلْتُ: وأسند أبو بَكْر بْنُ الخَطِيبِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ قَطُّ إلاَّ التاط مِنْهَا بِخِصَالٍ ثَلاَثٍ: أَمَلٌ لاَ يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ، وَفَقْرٌ لاَ يُدْرِكُ غِنَاهُ، وَشُغْلٌ لاَ يَنْفَكُّ عَنَاهُ» انتهى.
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أموالكم وَأَنفُسِكُمْ...} الآية: خطابٌ للنبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمته، والمعنى: لتختبرنَّ ولتمتحننَّ في أموالكم بالمَصَائب والأَرْزَاء، وبالإنفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفي سَائِرِ تَكَاليفِ الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالمَوْتِ، والأمراضِ وفَقْدِ الأحبَّة، قال الفَخْر: قال الواحديُّ: اللام في {لَتُبْلَوُنَّ}: لامُ قسمٍ. انتهى. وقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب...} الآية: قال عِكْرِمَةُ وغَيْره: السبَبُ في نزولها أقوالُ فِنْحَاص، وقال الزُّهْريُّ وغيره: نزلَتْ بسبب كَعْب بن الأشْرفِ؛ حتى بعث إلَيْه رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْ قتله، والأذَى: اسمٌ جامعٌ في معنى الضَّرَر، وهو هنا يشملُ أقوالهم فيما يَخُصُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ مِنْ سبٍّ، وأقوالهم في جِهَة اللَّه سبحانه، وأنبيائه، وندَبَ سبحانه إلى الصبْرِ والتقوى، وأخبر أنه مِنْ عَزْم الأمور، أي: مِنْ أشدِّها وأحسنها، والعَزْمُ: إمضاءُ الأَمْر المُرَوَّى المُنَقَّح، وليس رُكُوبُ الرأْي دون رَوِيَّةٍ عَزْماً.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب...} الآية: توبيخٌ لمعاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خَبَرٌ عامٌّ لهم ولغيرهم، قال جمهورٌ من العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ من علَّمه اللَّه عِلْماً، وعلماءُ هذه الأمَّة داخلُونَ في هذا الميثاقِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، والضميرُ في: {لَتُبَيِّنُنَّهُ}، {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}: عائدٌ على {الكتاب}، والنَّبْذُ: الطَّرْح، وأظهر الأقوال في هذه الآيةِ أنَّها نزلَتْ في اليهودِ، وهم المعْنِيُّون، ثم كلِّ كاتمٍ من هذه الأمَّة يأخذ بحظِّه من هذه المَذَمَّةِ.
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} وقوله سبحانه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ...} الآية: ذهبتْ جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما نزلَتْ في أهْل الكتاب أحبارِ اليهودِ، قال سعيدُ بن جُبَيْر: الآية في اليهود، فَرِحُوا بما أعطَى اللَّه آل إبراهيم من النبوَّة والكتابِ، فهم يقولونَ: نحن على طريقهم، ويحبُّون أن يُحْمَدُوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم، وقراءةُ سعيدِ بنِ جُبَيْر: «بما أُوتُوا»؛ بمعنى «أُعْطُوا» (بضم الهمزة والطاء)؛ وعلى قراءته يَستقيمُ المعنَى الذي قال، والمفازةُ مَفْعَلَةٌ من فَازَ يَفُوزُ، إذا نَجَا، وباقي الآية بيِّن. ثم دلَّ سبحانه على مواضِع النظرِ والعبرةِ، فقالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار}، أي: تَعَاقُب الليل والنَّهار؛ إذ جعلهما سبحانه خِلْفِةً، ويدخل تحت اختلافهما قِصَرُ أحدِهِمَا وطولُ الآخَرِ، وبالعكْسِ، واختلافُهُما بالنُّور والظَّلام، والآياتُ: العلاماتُ الدالَّة على وحدانيَّتِهِ، وعظيمِ قُدْرته سُبْحانه. قال الفَخْر: واعلم أنَّ المقصود من هذا الكتَابِ الكريمِ جَذْبُ القلوبِ والأرْوَاحِ عن الإشتغالِ بالخَلْقِ والإستغراقِ في معرفة الحقِّ، فلمَّا طال الكلامُ في تَقْرير الأحكامِ، والجوابِ عن شُبُهَاتِ المُبْطِلِين، عاد إلى إثارة القُلُوب بِذِكْرِ ما يدلُّ على التوحيدِ والكِبْرِيَاءِ والجَلاَل، وذِكْرِ الأدعية، فختم بهذه الآياتِ بنَحْو ما في «سورة البقرة». انتهى.
|